اصغوا. مع بزوغ نور الصباح، تسمعون أصوات دقدقةِ المطارق وطقطقة المناشير.الأطفالُ يحمّلون الرمل من ضفاف الأنهار في حقائبهم المدرسية. في البداية يشيّدون الكنيسة ثم المدرسة، وبعد ذلك مسكناً لكل عائلة حسب وضعها. يزيلون الأكواخ والخيام واحدة تلو الأخرى. تقوم كل عائلة بغرس شجرة توت وتعتني بحديقتها.
من تبقّوا من بلدة ماراش يؤسّسون ماراش جديدة أو "نور ماراش". طبعاً، ينطبق ذلك على "نور سيس" و"نور أضنة"، و"نور كيليكيا" و"نور هادجين". يصدح صخب مختلف، أنواع "الصنعات" التي تعلّموها في ورشات الميتم: أدوات النجارة، آلات الحياكة، وعدِة السّكافة. رائحة الدباغة الحادة تفوح في الجو، ومن ملابسهم. بيروت بأكملها تنتعل أحذيتهم.
انظروا إلى الأطفال خارج الكنيسة بملابسهم الناصعة! الفتيات يضعن "فيونكات" زاهية على رؤوسهنّ. تفضّلوا. الطعام مفروش على طاولة الغداء الرحبة، والأيادي تتسابق لتقديم الأطباق. أحدهم يحكي نكتة. في الأجواء ضحك وقهقهة. هناك من يخرِج آلة موسيقية من الشنطة ويبدأ الرقص والابتهاج.
تحدّثوا عن تلك الأيام، أو كلا! خلّوها مستورة. مثلاً، تلك الحفلات التي تنتهي بالطوش والعراك. النسوة من إحدى الكنائس يلقين "المياه المغلية" من الشبّاك على رجال مسلحين في الأسفل. تذكّروا كيف تتوقّف بقية بيروت عن المشاحنات، ويصبح الموضوع: كم أسبوعاً سيمضي قبل أن يتوقّف الرجال الأرمن عن سفك دماء بعضهم بعضاً؟
احكوا عن ريعان الشباب: الأطفال كبروا وطالت قاماتهم. أصبحوا موسيقيين وممثلين ورسامين وشعراء ووجوهاً معروفة. في هذا العالم الذي عمّره أهلهم من الركام والرماد، لا شيء مستحيل بالنسبة إليهم. العالم جديد في عيونهم.
تذكّروا هذا المشهد أيضاً: الحرب الأهلية تندلع. حالة الحياد لا تحمي من الرصاص والقذائف. الصاغة يهربون من وسط مركز برج حمود. تتناوب المليشيات بدورياتها ليلاً، ثم نهاراً أيضاً. قوارب عديدة تخرج من الميناء. ينطلقون بحقائبهم التي تفوح برائحة الجلد إلى المطار، مرة أخرى إلى مصير الشتات المجهول.
تذكروا "نور أضنة"، و"نور ماراش"، و"نور سيس". بعض الرجال لا يزالون يلعبون النرد ويشوون الكباب على مفترقات الطرق. لا تنسوا تلك الأزقة والبيوت الخشبية لمخيم سنجق، التي ردمت تفاصيلها بغرض بناء مركز تسوّق. يا أصحاب الذاكرة الطويلة، اصغوا، وانظروا، وتحدّثوا، وتذكروا: فحكاياتكم هي وطن كبير!
* ترجمة عن الإنجليزية إليز أغازريان
إرسال تعليق